أوقفته فى إحدى الإشارات بسيارته المتهالكة فى ليل أحد الأيام المطيرة، أطللت عليه من نافذته النصف مفتوحة و التى أنزلها حتى يمكنّنى من رؤية وجهه العابس و قد ظهرت عليه أفعال الزمان و نقش القدر على مدار السنين.
أنا: رخصك لو سمحت...
هو: ينظر إلي بعينيه المتعبتين فى استفهام حائر "أيهما"؟
أنا: فالنبدأ برخصة "القيادة"...
هو: كنت أمتلكها زماااان، أما الآن فبعد أن خذلونى و خانونى ، لم أعد أمتلك واحدة...
يتبسم فى أمل طيب متوسل : "لعلنى فى طريقى إلى إستخراج بدل فاقد، قول أنت بس "يارب"
أنا: طيب ، رخص سيارتك..
هو: لا أمتلك، فسيارتى صار لها زمنا لم تحرك ساكنة و بالتالى لم أجد داع لتجديد رخصتها
أنا: و بعدييين بأة، بطاقتك يا سيدى
هو: يدخل يده المرتعشة إلى جيب بدلته الصوفية و يخرج عدة بطاقات، منها الصحة، التعليم، الشباب..و آه، أخيرا بطاقته الشخصية ليعطيها لى و قد بدى القلق يساوره و عيناه تتعلق بتعابير وجهى...
أنا: آخذ منه البطاقة فى لهفة معرفة سر هذا العجوز لأجد "لا هوية لهذا الشخص"
أنظر إليه بحدة و أنادى معاونىّ: خدوه على القسم، سنستجوبه...أيها العجوز، إركن على جنب كدة بأة و إتفضل معايا
قدت بالرجل الهرم ذو الجسم الضعيف القليل الهين إلى القسم، جلبت له كرسيا خشبيا و أجلسته فى رفق قائلاً "تفضل يا سيدى، و الآن إحك لى قصتك"
تنهد الرجل و أخذ نفساً عميقا كأنه يخشى ألا يزفره مرة أخرى لا أدرى لم، لعلها من حسرة ما سوف يرويه على مسامعى...
جلست أنتظر دخول الضيوف من الكلمات على أذنىّ، سكت كل شيئ من حولى و خرجت الكلمات خروج النجوم إلى المسرح ليبدأ الاستجواب:
س: اسمك
ج: "الوطن العربى"
س: عمرك
ج: من آلاف السنين و ماتعدش
س: الحالة الاجتماعية
ج: متزوج من قارتين عجوزتين و حضارات عريقة
س: عندك أبناء؟
ج: نعم
س: كم عددهم؟
ج: لا أعرف
نظرة تعجب طويلة متفحصة!!!!!!!!!!!!!!! – ألا تعرف عدد أبنائك يا رجل؟؟
ج: لا، إحترت فى عدهِّن، مرات و مرات، يزِدن تارة و ينقُصن تارة، إنهن بلاد تُخلَق من صراعاتهن توأمتين متناحرتين شمالية و جنوبية تارة، و تارة أخرى تجدهُن واحدة فى قوتها جبارة، إحترت فى عددهِن و أخذت فى عدِّهن تكرار و لم إتخذ فى عددهن النهائى قرارا ...
- لازم تدينى جواب و ليس لك أيها الوطن العربى من جواب سؤالى فرارا ..
-الوطن العربى: حسنا، قالوا عنهن أنباءا و سمعت أنهن 21 مِراراً و مرارا
-أسماءهن و أعمارهن
-لا أحصيهن و لكنى سأجتهد حتى لا تسيئ بى الظن
السعودية فى إستضافة الحرم و المسجد النبوى هى أبختهن
أما ليبيا فبمعمر القذافي كانت أطرفهن وفى آبار بترولها هى أبكرهن
و العراق كانت فى الكويت هى أطمعهن و
سوريا على أطفالها هى أشرسهن و فى زواجها هى أبطشهن
تونس فى ثورتها هى أولهن
الجزائر أم المليون شهيد هى أكثرهن
المغرب فى عالميتها هى أسبقهن
موريتانيا فى عزلة صحرائها هى أغرقهن
الصومال فى نكران أخواتها و العالم إليها هى أفقرهن و أجوعهن
فلسطين ، رغم أنها فى مآسيها هى أبشعهن إلا أنها فى صراعها مع جارة السوء هى أعندهن
اليمن فى إستعادة تاريخ سبأها و مجد شعرائها هى أجرأهن
لبنان فى أَرزها و طبيعتها و لطافتها هى أجملهن
الأردن فى مملكتها و تراثها فى الأناقة هى أشهرهن
عمان فى ذخائرها الطبيعية هى أزخرهن
السودان فى ثروتها وقدراتها هى أجهلهن و للوليد الجنوبى هى أحدثهن
الإمارات فى برجها هى أعلهُن و فى جمال خَيلِها هى أبدعهن
البحرين فى مساحتها هى أصغرهن
قطر فى دورها الغامض هى أعجبهن
جيبوتى هى غياهب النسيان هى أبعدهن
أما مصر، فآآآه من مصر..إلى القلب هى أحبهن، و فى عدد الأبناء هى أقدرهن، و فى الحضارة هى أعرقهن، و فى حساب عمر الأرض هى أكبرهن، و فى أجناد الأرض هى خيرهن، و فى صفحات القرآن هى أوحدهن...و فى ذكر اسمها للحسنات هى أكرمهن و فى غضبها على أعاديها هى أعظمهن ..مصر ليس لها فى الأبجديات من كلمات لجمالها تصِفن و لا حروف لغلوها تنطقن ...إنها ..ببساطة التكوين، و أصطفاف الحروف ..مصر
لن أكمل الإستجواب، فباقى الإعتراف أنتم تعلمونه عن ظهر قلب و لا نفعل سوى أن نقلب الكف على الكف و عليه...
لم يُغلق التحقيق..
بل لا يزال مفتوحاً للأحداث التى فاقت تدوين التاريخ، أحداث تلف الوطن العربى من محيطه إلى خليجه بأمتار تعدت حد القياس، أحداث حريرية ناعمة، كتانية صامته و صوفية خشنة...
لا يزال التحقيق مفتوحا لخيالكم و أحلامكم التى تريدون تلوينها فيما تبقى من صفحات الوطن البيضاء، أو فى ما ستخلقونه من مساحات بيضاء بعد محو سواد الاستعمار و الاستبداد و الاستعباد و الفساد
لا يزال التحقيق مفتوحا لثورات علّها تأخذ بيد الوطن العربى العجوز لتعيد له حفيده صلاح الدين كما أعاد اليقين بالله، و الامل و الزمان يوسف ليعقوب.
لم يُقفَل المحضر فى ساعته و تاريخه... بل تُركّ لنا لتأريخه...
فهل نحن بعازمون؟